الصبر، وعلاقته بالإيمان والحصانة النفسية

ياسمين يوسف
9 نوفمبر، 2023

كيف ينجو الإنسان نفسيًا في ظل أهوال الحياة، وما يلاقيه على المستوى الشخصي، وعلى مستوى الأحداث العالمية التي هو جزء منها شاء أم أبى؟ كيف يمكن أن ينجو نفسيًا من ظلمٍ بيّنٍ تعرض له، أو من ظلمٍ فاحش يرى من يحبهم يمرون به؟ كيف يمكن أن ينتشل نفسه من ألم ظروفه الخاصة، وألم معاينة أوجاع المُستضعفين الذين يراهم ينزفون أمامه جسدًا، وقلبًا؟! كيف يمكنه أن يتعايش مع رؤية المجرمين يفلتون بجرائمهم، ويحققون الانتصارات (بالمعايير الدنيوية)، بينما يُقهر أصحاب الحق، ويصمت العالم على استضعافهم؟ ما الذي يمكن أن ينتشله من خضّم المحن؟

إن العمود الفقري للصحة النفسية من وجهة نظر علم النفس الإيجابي، هو ما يسمونه بالـ resilience. هناك العديد من المحاولات لترجمة هذا المصطلح بطريقة تعكس معناه. فهناك من يترجمه على أنه “المنعة”، أو “الحصانة” النفسية. وهناك من يقول أنه “المرونة” النفسية بمعنى القدرة على التأقلم النفسي تحت أي ظروف. وهناك من يترجمه بعكس المرونة، فيقول أنه “الصلابة” النفسية لينطوي على معاني القوّة، و”الصمود”. وفي الحقيقة، كل هذه المعاني يمكن اختزالها في كلمة واحدة، وهي “الصبر“. فكيف ذلك؟

“الصبر” بين علم النفس الإيجابي، والإيمان

يحدد علم النفس الإيجابي ملامح للـ resilience. فقوامه أن يستطيع الإنسان التأقلم مع أي وضع، وأن يستطيع مواصلة حياته مهما كانت العقبات. ويمكننا تقسيم تلك العقبات إلى ثلاث مستويات أساسية:

  • العقبات التي لا دخل له فيها – كعقد الطفولة التي لم يكن له ذنب فيها، وكالأزمات اليومية الخارجة عن سيطرته، والنهوض مجددًا بعد أي أزمة مرّت، وانتهت ولا يمكنه أن يعود للماضي لمحو آثارها. لن يكون للإنسان فرصة لتحقيق الصحة النفسية في حياته، إذا لم يستطع التعافي في وجه هذا النوع من العقبات. 
  • العقبات التي تقف في طريق طموحه، وتحقيقه لأهدافه، ولما يرجو في الحياة – لن يستطيع الإنسان الوصول للصحة النفسية إذا لم يستطع تحقيق أهدافه، أو التصالح بشكل ما مع احتمالية عدم تحققها. 
  • العقبات الداخلية من صراعات، وأهواء – لا يستطيع الإنسان تحقيق الصحة النفسية إذا لم يستطع التحكم في أهوائه، ورغباته، وصراعاته الداخلية. 

والمعنى أن الإنسان إذا استطاع أن يجد حلولاً كلما تعرّض لأيٍ من هذه العقبات، يعني هذا أن يتمتع بالمقاومة، أو المرونة، أو الصلابة، أو المنعة النفسية، وأنه يصبح محصّنًا في كل المواقف الحياتية. فهل “الصبر” كمعنى يختزل كل هذا؟ 

الله ﷻ هو “الصبور“، وهو ﷻ أخبرنا أن “الصبر” هو عنصر أساسي في معادلة الفوز في الحياة الدنيا في سورة العصر:

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

فالسورة تحتوي على أربعة عناصر للفوز في الحياة الدنيا، والآخرة بإذن الله. تلك العناصر هي:

  • الإيمان
  • العمل الصالح
  • التواصي بالحق
  • التواصي بالصبر

أي أن التواصي “بالصبر” هو ربع معادلة الفوز، بل أكثر من ذلك، لأنه يدخل أيضًا بقوة في عنصر “العمل الصالح”. فالله ﷻ يجزي الصابرين بغير حساب. فما معنى الصبر إذًا؟

إذا تأملّنا نبات الصبّار، نجد أنه يعيش، وينمو، ويزهر في أحلك المواقف، ومهما كانت العقبات. فبرغم البيئة القاحلة، والتربة الجافة، والحرارة الحارقة، والرياح العاتية، وندرة المياه، إلا أنه يتأقلم، ويتحمّل، ويزهر، وينمو، ويستمر. إن هذا هو أفضل معنى للصبر.

ويقسّم العلماء الصبر إلى ثلاثة مستويات، وهي: 

  • الصبر على المقدور – أي الصبر على كل ما لا يملك الإنسان حيلة تجاهه: كالحروب، وعقد الطفولة، وكل وضع لا يمكنه تغييره. ويعني أن نشدد من أزر أنفسنا، وبعضنا البعض مهما كان الواقع مؤلمًا لا يمكن استيعاب قسوته. 
  • الصبر على المأمور – أي مُجاهدة النفس، للانضباط بكل أمر من الله ﷻ، وكذلك لتحمّل الصعاب، واقتحام العقبات، ونفض الخمول، وذلك للإضطلاع بآمال كبيرة، وأحلام عالية.
  • الصبر عن المحظور – أي المجاهدة من أجل الابتعاد عن كل ما نهى الله ﷻ مهما كانت المغريات. وفي ذلك تأصيل لسيطرة الإنسان على نفسه، بدلاً من أن تسيطر هي عليه. 

وهكذا نستطيع أن نحقق مقاربة بين معنى الصبر في علم النفس الإيجابي، ومعناه الإيماني، ونجد توافقًا وزيادة على المستوى الإيماني. 

وقد اختصره الدكتور مصطفى محمود، رحمه الله، في قوله “أن تقاوم ما تحب، وأن تتحمّل ما تكره“. وفي هذه الكلمات القليلة معانٍ عميقة للصبر. فكيف يمكن تحقيق ذلك المستوى العالي من “الصبر“؟ هنا ينتهي دور زورق العلم، وتبدأ شواطئ بحور الإيمان.

الصبر، وأركان الإيمان

كثير من المعاني التي كنا ننظر لها بآلية، قد تجسدت أهميتها القصوى في حياة كل منا في الآونة الأخيرة. فنحن تعلّمنا أن الإيمان له أركان، وهي أن نؤمن بالله ﷻ، وبملائكته، وبكتبه، وبرسله، وبالدار الآخرة، وبالقدر خيره وشرّه. وللأسف كنا ننظر لهذا الأمر الجلل باعتيادية مفرطة. لكن مع هول ما نعايشه في عصرنا، تجسدت لنا معاني هذه الأركان كأطواق نجاة لا يمكن أن ننجو بأنفسنا بدونها! 

فالإيمان بالله ﷻ، وبكل أسمائه الحسنى حتمي لصحتنا النفسية عندما لا نستطيع تفسير أي شيء، ولا فهم أي شيء. نؤمن أنه الحكيم، المدبّر، فتهدأ عقولنا قليلاً لأننا لا نفهم حكمة أي شيء. ونرى الظلم البيّن، والظالم ينجو بفعلته ويعيش طويلاً نائلاً للتكريمات، فنتذكر أنه سبحانه الحق العدل المُحصي الرقيب المؤخر المنتقم، وتبرد نيران القلوب قليلاً انتظارًا لانتقام من يُمهل، ولا يُهمل. ونرى التضحيات، والتفاني ممن جاهدوا بأموالهم، وأنفسهم، ونعاين قهر قلوب ذويهم؛ لكن نتذكر أنه ﷻ الخبير، البصير، العليم يكتب أجرهم، وهو الولي الرؤوف الرحيم بهم، وهو الجبار لكسرهم؛ فيُجبر كسرنا قليلاً. ونوقن أنه ﷻ هو الحي الباقي المُميت المُحيي الباعث الحسيب؛ فنؤمن أن كل هذا ممكنٌ، وأن لنا موعد، وللحساب ساعة. ونؤمن أنه ﷻ هو الملك مالك المُلك المهيمن، فنستحي من أن نعترض على ما قضى، ونتأدب، فهو لا يُسأل عمّا يفعل في مُلكه. لا يمكن أن نمر من أي محنة بدون هذا الإيمان. 

أما الإيمان بالملائكة، فهو لا يتجزأ عن إيماننا بكل شيء وصلنا من هذا الخالق ﷻ. فبملكٍ نزل القرآن الكريم على نبينا، وحبيبنا محمد ﷺ، وعرفنا من خلاله عن الله ﷻ. وبملائكةٍ تُكتب الأعمال. وبملائكةٍ تُكتب أرزاقنا من عند الله ﷻ، ونحن في أرحام أمهاتنا، وبهم نُحفظ، ويُستغفر لنا. وبملائكةٍ نُنصر ونؤيّد بإذنه ﷻ، وبملكٍ تُرجع النفس لخالقها، وبملائكةٍ نسُاق للحساب، ويُساق كل منا إلى مصيره (جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة). فالإيمان بالملائكة يدعم اليقين بكل أركان الإيمان الأخرى. 

وأما الإيمان بالكتب، والرسل، فعن طريقهم عرفنا الله ﷻ، وعرفنا أركان الإيمان، وعرفنا الأوامر، والنواهي، وعرفنا الوعد، والوعيد، والسُنن الربانية. فبدون الإيمان بهم، تصبح حياتنا بلا خارطة طريق، ولا نعرف حق، من باطل، بل ولن نعرف الله ﷻ. 

وأما الإيمان باليوم الآخر، فبه تغمض عين المظلوم يقينًا بأن الله ﷻ منتقمٌ ممن ظلمه. وبه يصبر الحبيب على فراق حبيبه الذي ارتقى يقينًا منه بلقاءٍ آخر. وبه ينتظر كل منتظر… من ينتظر الراحة بعد التعب… ومن ينتظر السعة، والغنى بعد الفقر… ومن ينتظر النصر بعد الخذلان… ومن ينتظر الحق بعد أن ظُلم… ومن ينتظر عناقًا طال اشتياقه إليه… ومن ينتظر لقاء الحبيب ﷺ الذي آمن به، ولم يره… ومن ينتظر رؤية الخالق ﷻ الذي ذاب شوقًا إليه! 

وأما الإيمان بالقدر خيره، وشرّه، فهو الإجابة لكل شيء! هو الإجابة للتعايش مع ما لا تستوعبه عقولنا، وما تذهل عنه قلوبنا، وما تشيب له الوالدان، وتقشعر له الأبدان! هو الإجابة للتعايش مع كل منع، وقبض، وزلزلة، وفقد، وخسران. هو دليلنا لكي لا نعبد الله ﷻ على حرف، ولنعبده ﷻ في السراء، والضراء، ومهما كانت الظروف!

وهذا الركن الأخير من الإيمان بالقدر خيره، وشرّه، يهيئنا لكل ما يمكن أن يحدث! فلا مفاجآت، ولا صدمات. بل هو قرارٌ واعٍ نتخذه بأنه مهما يحدث، سنسعى للرضا بما قضى الله ﷻ بلا سخط، ولا شكوى، ولكن بصبرٍ جميل! هو قرار بأنه لا يمكن أن يوجد ما يزعزع إيماننا به ﷻ مهما كان، ومهما حدث.

وعليه، فمهما كان الموقف الذي نجد أنفسنا فيه؛ سواء كانت حربًا لا نعرف متى تنتهي وعلامَ، أو كان فصلاً دراسيًا لا نعرف ماذا ستكون نتائجه، أو كانت عملية جراحية نأمل أن تمر على خير، أو كان مشروع زواج لا نعرف إذا كان سيتم أو لا، أيًا كان الموقف، علينا تهيئة أنفسنا مسبقًا لكل النتائج المُحتملة. فلا شيء صادم. السؤال الوحيد هو، كيف سأتعامل مع هذه النتائج، وليس هل أستطيع التعامل معها أو لا. أن لهذا التهيّؤ أثر السحر على القلوب وقت النوازل. وهذا هو المعنى الحرفي للمرونة أو الصلابة النفسية. 

نسأل الله ﷻ أن يثبّت قلوبنا على دينه، وأعيننا على وجهته، وأقدامنا على صراطه المستقيم. فلا شيء غير هذا يهم. فنحن لسنا أهل الدنيا وليس لنا فيها شيء. أما الآخرة، فهي دارنا، ونرجو فيها من الله ﷻ كل شيء. ولا يوجد عاقل يستبدل كل شيء باللا شيء!

رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ

(الأعراف:126)

لقطة واحدة في فيلم كبير

يستمر الإيمان بالله ﷻ، وبأسمائه الحسنى في تهدئة روعنا، وإكسابنا ذلك الصبر المطلوب أثناء النوازل، وذلك من خلال إضاءات تساعدنا على استيعاب بعض ما يجري حولنا. فما نحن فيه هو مشهد واحد من فيلم طويل، كان الأول ﷻ هناك قبل بدايته، وهو الآخر الباقي ﷻ هناك بعد نهايته، وفيما بين النقطتين هو سبحانه متجلٍ بكل أسمائه الحسنى وصفاته العُلى يدبّر الأمر. وهذه اللقطة الواحدة أو المشهد الواحد هو عصرنا الحالي الذي يعيش فيه جيلين أو ثلاثة على الأكثر من الميلاد، للوفاة. وقبلنا كانت هناك العديد من المشاهد أو اللقطات منذ بدأ التأريخ لأجيال لا نعرف عددها. وبعدنا سيستمر الفيلم ويكون هناك ما يشاء الله ﷻ من الأجيال، والمشاهد الأخرى لحين نزول شارة النهاية. وتلك النهاية هي فقط بداية لمشاهد جديدة حيث البعث، والحساب، والحياة الأبدية. فلا يُعقل أن يأخذنا الغرور لنطالب بأن نرى كل فصول القصة، وأن تُختزل في مشهد واحد، بل ليس فقط في مشهد واحد بل في ثانية واحدة من هذا المشهد لنتمكن من رؤية كل الأحداث في حياتنا القصيرة. بل ليس حتى في حياتنا، بل الآن في اللحظة الآنية. فأي نوع من عدم الفهم هذا! وأي كبرٍ يكون!

فلنهدأ قليلاً، فحتى في مشهدنا الواحد من القصة، الأيام دوّل، والحروب جولات، والتدافع سُنّة تجري بين خفض، ورفع، وسعة، وضيق. ولا يوجد نهاية… بل cliff hangers، أي نهايات مفتوحة، وأجزاء متتالية تتعاقبها الأجيال… ويتسلّم كل جيل القلم ممن سبقه ليبدأ في كتابة سطور جديدة. الشيء الوحيد الذي يتغير هو أبطال القصة. فلا معنى لليأس في معارك لم تُحسم بعد. 

إذا فكرّنا في كل هذه المفاهيم جنبًا إلى جنب، سيتكوّن لدينا جهاز معرفي كامل فيه كل مقومات المرونة، والصلابة في نفس الوقت، وقادر بإذن الله على التعامل مع أي شيء. وسنفهم معنى “الصبر“، وعلاقته بالصحة النفسية، وسنفهم كيف يخرج ناجٍ من تحت الهدم وبعد أن فقد كل شيء، وكل من يحب، وبلا أي مستقبل يلوح في الأفق، ولكنه يخرج رافعًا علامة النصر هاتفًا “الحمد لله“، متمثلاً الصبر عند الصدمة الأولى كما علّمنا الحبيب ﷺ. فإذا تجاوزنا الصدمة الأولى بالصبر، والحمد، فُتحت آفاق التعافي الممكن. فالحمد لله هي البداية في مشهدٍ مؤلم بعد أي فقد، ولعلها تكون آخر ما نقول في مشهدٍ رائعٍ بعد دخولنا الجنة بإذن الله:

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ” (74)

(سورة الزمر)